الجواب الناجع لمن سأل عن فقه الواقع

 

قال د. علي بن عمر با دحدح عضو هيئة التدريس بجامعة الملك عبد العزيز بجدة

((فقه الواقع:” فهم النوازل والمتغيرات الجديدة في الحياة والأفراد والمجتمعات وتصورها ومعرفة حكمها في الشريعة الإسلامية “.))

وقال أيضاً ((ويعتبر المصطلح مهماً لعدة أسباب:

(1) أهمية اليقين بلزوم تحكيم الشريعة في سائر جوانب الحياة، وجميع نشاطات المسلمين .

(2) التأكيد على صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان في سماحة ويسر.

(3) تحقيق المعاصرة الإيجابية المرتبطة بالأصول والثوابت، والمستوعبة للمستجدات والنوازل.

(4) التأكيد على مراعاة اختلاف الأحوال والظروف والأوصاف والأحكام . ))

وقال أيضاً ((إن واقعية الإسلام تقتضي من أتباعه عموما،ً وأهل العلم والاختصاص منهم خصوصاً أن يعيشوا عصرهم ويعرفوا واقعهم، وأن يحسنوا الانتفاع من الجديد المفيد، وأن يحسنوا الإقناع بترك المفسد الوليد، وقد اتخذ – صلى الله عليه وسلم – الخاتم على الكتب والرسائل فيما رواه البخاري (65)، ومسلم (2092) من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه-، وخندق النبي – صلى الله عليه وسلم- وأصحابه – رضي الله عنهم- من بعده في الجهاد والمعارك كالفرس انظر ما رواه البخاري (3797)، ومسلم (1804)، من حديث سهل بن سعد – رضي الله عنه- )))

قال الخطيب البغدادي : (إن الفقيه يحتاج أن يتعلق بطرف من معرفة كل شيء من أمور الدنيا والآخرة، وإلى معرفة الجد والهزل، والنفع والضر وأمور الناس الجارية بينهم والعادات المعروفة منهم) (الفقيه والمتفقه ).

قلت ((واستناداً إلى ما مضى فإنه ينبغي لأهل العلم أن تكون معرفتهم الواقعية المعاصرة معرفة جيدة ومتواصلة، ليكونوا أقدر على تصور المسائل وأتقن للإجابة عليها .))

قال ابن القيم :(والواجب شيء والواقع شيء، والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب) (إعلام الموقعين 4/220).

وقال الجويني : (أن الناس يفزعون عند معرفة أحوال الناس وتقديم بعضهم على البعض إلى الاختصاصات ودقائق الزيادات في حسن الفضل وكمال الحال) (المعيار المعرب 6/351).

وقال الدكتور فتحي الدريني :(إذا كان من المقرر بداهة أن طبيعة الاجتهاد: عقل متفهم ذو ملكة مقتدرة متخصصة، ونص تشريعي مقدس يتضمن حكماً ومعنى يستوجبه، أو مقصداً يستشرف إليه، وتطبيق على موضوع النص أو متعلق الحكم، ونتيجة متوخاة من هذا التطبيق: فإن كل أولئك يكون نظرياً ما لم تكن الواقعة أو الحالة المعروضة قد دُرست درساً وافياً، بتحليل لعناصرها، وظروفها وملابساتها، إذ التفهم للنص التشريعي يبقى في حيز النظر، ولا تتم سلامة تطبيقه إلا إذا كان ثمة تفهم واع للوقائع بمكوناتها وظروفها، وتبصّر بما عسى أن يسفر عنه التطبيق من نتائج، لأنها الثمرة العملية المتوخاة من الاجتهاد التشريعي كله) (مقدمة كتاب المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي ص5).

وقال د. بادحدح (((ولابد من التأكيد على أهمية الجمع بين فقه النصوص الشرعية وفقه الأحوال الواقعية حتى يمكن الإحسان والإتقان في تنزيل النصوص الشرعية على النوازل الواقعية، ومن المعلوم أن النصوص لا تتناول كل الصور والوقائع، ولكن مقاصدها وقواعدها وأصول الاستنباط منها تفي بالحاجات مهما كثرت والمستجدات مهما تنوعت.)))

وقال أيضاً ((وفي القواعد والأصول من المرونة ما يحقق المقصد، والفتاوى تتغير بتغير أحوال الأشخاص والظروف والأعراف والعادات، والأصل في الأحكام الشرعية – غير أحكام العبادات – أنها مرتبطة بالحِكم والمقاصد والغايات، وقد جاء في النصوص ما يشير إلى ذلك، وأكتفي بمثال واحد يبين تغير الفتوى بمراعاة الواقع : مخاطبة الناس على قدر عقولهم ومراعاة اختلاف أفهامهم قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “يا عائشة لو لا أن قومك حديث عهدهم – قال ابن الزبير: بكفر- لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين، باب يدخل الناس وباب يخرجون” أخرجه البخاري، في كتاب: العلم، باب: مَنْ ترك بعض الأخبار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشد منه، رقم (126)، ومسلم (1333) )))

 قال ابن حجر في الفتح (1/225) (ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأنّ الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولاً ما لم يكن محرّماً). وروى الإمام البخاري في صحيحه ، في كتاب: العلم، باب مَنْ خصَّ بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألاَّ يفهموا، عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال : حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله ؟. وروى مسلم عن ابن مسعود – رضي الله عنه -: “ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة” أخرجه مسلم في المقدمة ، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع (1/11) .

وهذه كلمات للشاطبي أضعها أمام عين كل داعية وأهتف بها في سمعه ليعلم أنه (ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره إن كان من علم الشريعة ومما يفيد علما بالأحكام ، بل ذلك ينقسم : فمنه ما هو مطلوب النشر ، وهو غالب علم الشريعة ، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق ، أولا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص) الموافقات (4/189) .

وأزيد الأمر وضوحاً بذكر القاعدة الضابطة الرائعة التي ذكرها الشاطبي وأرشد إليها، مخاطباً كل عالم وداعية حيث أوصاه أن يعرض مسألته على الشريعة

 فقال : (فإن صحت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمن وأهله ، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة ، فاعرضها في ذهنك على العقول فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تتقبلها العقول على العموم ، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم ، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على المصلحة الشرعية والعقلية) الموافقات (4/191) .

وقال د. بادحدح ((ومثل ذلك مراعاة تغير الأعراف والعوائد، وما سبق إنما هو مثال له نظائر كثيرة، ولا بد من التنبيه على ضرورة عدم التعرض للإفتاء، والحديث عن النوازل دون تأهل يجمع بين العلم بالشرع والمعرفة بالواقع، ومن هنا أحذر من تمييع الدين في أصوله وأحكامه – من قبل غير المؤهلين – بحجة المعاصرة ومعايشة الواقع، كما يقع ممن يلوون أعناق النصوص ويعتسفون في فهم دلالاتها لأجل موافقة نظرية حديثة، وهذا إيجاز من القول أرجو أن يكون كافياً وواضحاً، والحمد لله رب العالمين .))

وقال الشيخ الألبانى ((معرفة الواقع للوصول به إلى حكم الشرع واجب مهم من الواجبات التي يجب أن يقوم بها طائفة مختصة من طلاب العلم المسلمين النبهاء كأي علم من العلوم الشرعية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو العسكرية أو أي علم ينفع الأمة الإسلامية ويدنيها من مدارج العودة إلى عزها ومجدها وسؤددها وبخاصة إذا ما تطورت هذه العلوم بتطور الأزمنة والأمكنة.))) كتاب فقه الواقع.

قال الشيخ الألبانى (((فالأمرُ إذاً كما قال الله تعالى : (وَكَذلكَ جَعَلناكُم أمَّة وَسَطاً) ، ففقهُ الواقع بمَعناهُ الشرعيِّ الصَّحيح هو واجبٌ بلا شكّ ، ولكنْ وجوباً كِفائيّاً ، إذا قامَ به بَعضُ العُلماء سَقطَ عَن سائرِ العُلماء ، فضلاً عن طلاّبِ العلم ، فضلاً عَن عامَّةِ المُسلمين . ))) السابق

قال ابن القيم – رحمه الله – :

ولا يتمكن المفتي ، ولا الحاكم ، من الفتوى ، والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم :

أحدهما : فهْم الواقع والفقه فيه ، واستنباط علم حقيقة ما وقع ، بالقرائن ، والأمارات ، والعلامات ، حتى يحيط به علماً .

والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع , وهو فهم حكم الله الذي حكم به ، في كتابه ، أو على لسان رسوله في هذا الواقع ، ثم يطبق أحدهما على الآخر .” إعلام الموقعين ” (1 / 87) .

وقد طبَّق العلماء الأجلاء ذلك في فتاوى كثيرة متعددة ،

 ومن ذلك ما أفتى به شيخ الإسلام ابن تيمية حين سئل عن قتال التتار مع أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله ، فقال : نعم ، يجب قتال هؤلاء ، بكتاب الله ، وسنَّة رسوله ، واتفاق أئمة المسلمين ، وهذا مبني على أصلين : أحدهما : المعرفة بحالهم ، والثاني : معرفة حكم الله في مثلهم .

فأما الأول : فكل مَن باشر القوم يعلم حالهم ، ومَن لم يباشرهم يعلم ذلك بما بلغه من الأخبار المتواترة ، وأخبار الصادقين ، ونحن نذكر جلَّ أمورهم بعد أن نبيِّن الأصل الآخر الذي يختص بمعرفته أهل العلم بالشريعة الإسلامية فنقول :كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة : فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين … .” مجموع الفتاوى ” (28 / 510)

قال الشيخ ابن عثيمين ((هذا فقه الواقع، ومن المعلوم أن واقع الناس لابد أن يكون معلوماً لدى الإنسان حتى يعرف ماذا يعيش فيه، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في قوله حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن : ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب ) فأخبره عن واقعهم وحالهم ))

قال العلامة الفوزان (((وأما الاشتغال بواقع العصر كما يقولون، أو فقه الواقع؛ فهذا إنما يكون بعد الفقه الشرعيِّ؛ إذ الإنسان بالفقه الشرعيِّ ينظر إلى واقع الناس وما يدور في العالم وما يأتي من أفكار ومن آراء، ويعرضها على العلم الشرعيِّ الصَّحيح؛ ليميز خيرها من شرِّها، وبدون العلم الشرعيِّ؛ فإنه لا يُميِّزُ بين الحقِّ والباطل والهُدى والضَّلال )))

بقلم مجدى حسين

أضف تعليق

مدونة التاعب

محمد شاهين التاعب: باحث في الأديان والعقائد والمذاهب الفكرية المعاصرة

مُكَافِح الشُّبُهات

أبو عمر الباحث - غفر الله له ولوالديه

مدونة أبوعمارالأثري

طالب علم متخصص في مقارنة الأديان ونقد المسيحية والرد على الشبهات

الرَّد الصَّرِيح عَلَى مَنْ بدَّل دِينَ المَسِيح

تَحتَ إِشْراف:المُدَافِع السَّلَفِي ــ أَيُّوب المَغْرِبِي

مدوّنة كشف النصارى

للحق دولة ، وللباطل جولة